منوعات

تاريخ الصوفية في تركيا

تعد الصوفية من أبرز وأهم الحركات الدينية الروحية في العالم الإسلامي، وهي تمثل الجانب الروحي والتأملي للإسلام، وتساهم في توجيه الإنسان نحو صفاء الروح والتقرب إلى الله. تعد تركيا، التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية لعدة قرون، من أهم مراكز الصوفية في العالم الإسلامي. فقد تركت الصوفية في تركيا إرثًا روحيًا ومعماريًا عميقًا، مع العديد من الزوايا والمراكز التي لا تزال تمثل مراكز إشعاع روحي وثقافي. لكن لتاريخ الصوفية في تركيا العديد من الأبعاد التي تبرز تطور الفكر الصوفي، والرموز التي شكلت هذا الفكر، وتفاعلها مع الأوضاع السياسية والاجتماعية عبر العصور.

1. مفهوم الصوفية وتاريخها المبكر

الصوفية هي تيار ديني روحاني نشأ في الإسلام في القرن الثاني الهجري (القرن الثامن الميلادي)، وتهدف إلى تحقيق القرب من الله من خلال العبادة، الزهد، التأمل، والسعي لتطهير النفس من العيوب. في البداية، كانت الصوفية حركة فردية تُمارس من قبل متصوفين يبحثون عن تجارب روحية شخصية وفهم أعمق للوجود الإلهي.

كان أول من اشتهر بتعليم الصوفية من الصحابة هو “فضيل بن عياض” (ت 187 هـ) في بغداد، ولكن تعاليمه كانت متواضعة مقارنة بما ستصل إليه لاحقًا. تطورت الصوفية في القرون التالية بشكل كبير، وظهرت مدارس وطرق صوفية جديدة تختلف عن بعضها البعض في منهجها وتفسيرها لمفاهيم مثل التوبة والتصوف والزهد. وظهرت الطرق الصوفية المتعددة مثل القادرية، المولوية، النقشبندية، والشاذلية.

2. الصوفية في العهد العثماني

في ظل الإمبراطورية العثمانية (1299-1922)، كان للصوفية دور محوري في الحياة الدينية والاجتماعية. لم تقتصر الصوفية على كونها حركة روحانية فحسب، بل كانت أيضًا قوة اجتماعية وسياسية مؤثرة. ارتبطت الطرق الصوفية بالعائلة الحاكمة العثمانية وبعضها حظي برعاية كبيرة من قبل السلاطين العثمانيين، الذين كانوا يعتقدون أن الزعماء الصوفيين يمتلكون مكانة روحانية قادرة على التأثير في الشؤون السياسية.

خلال العصر العثماني، تم تأسيس العديد من الزوايا الصوفية، التي كانت بمثابة مراكز للتعليم الروحي والمجتمعي. ازدهرت الطرق الصوفية وتنوعت، وكان لكل طريقة خصائصها وممارساتها المميزة. كانت الصوفية في العهد العثماني تمثل أحد أشكال التعبير عن التدين الشعبي، وكان لها تأثير عميق في الحياة الثقافية والسياسية.

3. أشهر الطرق الصوفية في تركيا

هناك العديد من الطرق الصوفية التي تركت بصمتها العميقة في تاريخ تركيا، ومن أبرز هذه الطرق:

أ. الطريقة المولوية

الطريقة المولوية، أو ما يعرف بـ “الراقصون الدوّارون”، هي واحدة من أشهر وأقدم الطرق الصوفية في تركيا. نشأت هذه الطريقة على يد جلال الدين الرومي (1207-1273)، الفيلسوف والشاعر الصوفي الكبير، الذي أسس مدرسة روحانية في قونية. جلال الدين الرومي كان له تأثير كبير في تطور الصوفية في تركيا، وكان يُعتبر نموذجًا للزهود والتأمل في الذات الإلهية.

الرومي ليس فقط مصدرًا للعديد من الكتب الصوفية الشهيرة مثل “المثنوي”، بل قدم أيضًا نوعًا فريدًا من التعبير الروحي من خلال “الرقص الدوار”، الذي أصبح رمزًا للاتصال المباشر مع الله. اليوم، في قونية، يعتبر المولوية مركزًا رئيسيًا للصوفية، ويجذب الزوار من جميع أنحاء العالم.

ب. الطريقة النقشبندية

الطريقة النقشبندية هي واحدة من أكثر الطرق الصوفية تأثيرًا في العالم الإسلامي، وتركز على أهمية التقاليد الروحية الشديدة والسمو الأخلاقي. تأسست هذه الطريقة في القرن السادس الهجري على يد الشيخ بها الدين النقشبندي في منطقة بخارى (آسيا الوسطى)، ثم انتشرت في تركيا والعالم الإسلامي.

لقد عرفت الطريقة النقشبندية بممارساتها المتزنة والمتكاملة، مع التركيز على الذكر وتطهير النفس. يُعتبر الشيخ خالد النقشبندي (1779-1827) من أبرز الشخصيات النقشبندية التي عملت على تجديد الحركة الصوفية في العهد العثماني.

ج. الطريقة القادرية

تعد الطريقة القادرية واحدة من أقدم الطرق الصوفية التي تأسست في القرن الخامس الهجري على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني. انتشرت القادرية في مناطق شتى من العالم الإسلامي بما في ذلك تركيا. تعرف هذه الطريقة بالتركيز على العبادة الفردية والتضرع إلى الله، بالإضافة إلى الأخلاق الحميدة والخدمة المجتمعية.

د. الطريقة الشاذلية

أسسها الإمام أبو الحسن الشاذلي في القرن السابع الهجري، وتركز هذه الطريقة على الرقة الروحية والمكاشفة الداخلية. تعتمد على ممارسة الذكر الصوفي والتأمل في ذات الله.

4. الصوفية في العصر الحديث: التحديات والتحولات

مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، بدأت الصوفية تواجه تحديات كبيرة. حيث سعى النظام الجديد إلى تطبيق إصلاحات ديمقراطية وعلمانية، مما جعل المؤسسات الدينية التقليدية، بما في ذلك الطرق الصوفية، تواجه قيودًا شديدة.

في عام 1925، أصدر أتاتورك مرسومًا قضى بحظر الزوايا والتجمعات الصوفية، وذلك في إطار السياسة العلمانية التي كانت تسعى لفصل الدين عن السياسة. كما تم إغلاق العديد من الزوايا والأماكن التي كانت تشهد تجمعات صوفية. ورغم ذلك، لم تتوقف الحياة الصوفية في تركيا بشكل كامل، بل تحولت إلى ممارسة سرية ضمن نطاق ضيق.

في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بدأت الصوفية في تركيا تشهد نوعًا من الانتعاش بعد فترة من القمع، حيث بدأ الأفراد في العودة إلى هذه الطرق الروحية بمستويات متفاوتة. وتراوحت هذه العودة بين محافل دراسية غير رسمية وأماكن تجمع صغيرة في المدن الكبرى.

5. الصوفية في تركيا اليوم

اليوم، تعد الصوفية في تركيا جزءًا من الموروث الثقافي والروحي للبلاد، على الرغم من التحديات التي مرت بها. ورغم محاولات العلمانية للحد من تأثيرها، لا يزال للصوفية تأثير كبير في الحياة الدينية والروحية للأتراك، خاصة من خلال طقوسها وفنونها المميزة مثل الرقص الدائري (الرقص الدوار)، والموسيقى الصوفية، والأشعار الروحية.

إضافة إلى ذلك، يتم الحفاظ على العديد من الزوايا والمراكز الصوفية في تركيا كمواقع ثقافية وسياحية. وأصبحت الطريقة المولوية، على وجه الخصوص، معروفة عالميًا من خلال عروض الرقص الدوار في قونية التي تجذب الزوار من جميع أنحاء العالم.

6. الصوفية وثقافة الحوار بين الأديان

في السنوات الأخيرة، ظهر نوع من التقارب بين الصوفية والديانات الأخرى في تركيا والعالم، حيث يعترف العديد من المتصوفين بأن الطريق الروحي لا يقتصر فقط على الإسلام، بل يمكن أن يكون مشتركًا بين مختلف الأديان. تزايد الاهتمام بالصوفية في الأوساط الأكاديمية والثقافية في العالم الغربي، خاصة في مجال الحوار بين الأديان والفهم المتبادل بين الثقافات.

الخاتمة

تاريخ الصوفية في تركيا طويل ومعقد، فهو يعكس التفاعل العميق بين الدين والسياسة والثقافة عبر العصور. من خلال الطرق الصوفية المختلفة التي ازدهرت في العهد العثماني إلى التحديات التي واجهتها في العصر الحديث، تظل الصوفية قوة روحية هامة في تركيا. ولا يزال لهذه الطرق تأثير عميق في حياة الأفراد والمجتمعات التركية، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية والدينية للبلاد.

المصادر:

  1. Chittick, William C. The Sufi Path of Knowledge: Ibn al-‘Arabi’s Metaphysics of Imagination. State University of New York Press, 1989.
  2. Schimmel, Annemarie. Mystical Dimensions of Islam. University of North Carolina Press, 1975.
  3. Knysh, Alexander. Islamic Mysticism: A Short History. Brill, 2000.
  4. Lewis, Bernard. The Emergence of Modern Turkey. Oxford University Press, 1968.
  5. Yılmaz, İsmail. The Turkish Sufi Movement: The History of the Bektashi Order. Cambridge University Press, 2016.
  6. Macmillan, Keely. *The Wh

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى