قصص جارة فرع الأمن السياسي بدمشق: رعب، قهر، دموع، ثم فرج

في العاصمة السورية دمشق، كما في سائر مدن البلاد، لم يكن الرعب مجرد لحظة عابرة أو حدث استثنائي، بل كان نمط حياة. كان الخوف جزءاً من الروتين اليومي، يرافق الناس في حديثهم وخطواتهم ونظراتهم، حيث كانوا يحرصون على ألا تطول حتى لا يُفهم على أنها “فضول غير مرغوب فيه”. كان الأمر يتطلب معرفة كيف تتكلم، كيف تهمس، كيف تنظر، وكيف تصمت.
لكن ماذا لو كان مصدر هذا الخوف يعيش بجانبك؟ ماذا لو كان الجار هو فرع الأمن السياسي نفسه؟
لم تكن هذه مجرد كوابيس بالنسبة لفاطمة فوّاز، بل كانت حياتها اليومية، فقد كان منزلها يواجه فرع الأمن السياسي في منطقة الميسات بدمشق، الذي يُعرف اختصارًا بـ “السياسية”. أما صديقتها شهد العبيّة، فكانت تعيش في جزء آخر من دمشق، لكن الرعب لم يكن بعيدًا عنها.
كانت العلاقة بين فاطمة وشهد قد نشأت منذ أيام المدرسة، حيث لم تكن المدرسة مجرد مكان للتعليم، بل كانت ساحة “للتشبيح” كما تقول فاطمة، حيث كان الطلاب يُجبرون على الهتاف للرئيس بشار الأسد، وكل من يخالف هذا التوجه كان عرضة للعواقب.
في عام 2011، كان فاطمة وشهد تلميذتين في الصف التاسع، وقد بدأتا متابعة “ثورات الربيع العربي”، وهو ما جعل سوريا تنضم إلى تلك الاحتجاجات في 15 مارس من نفس العام. تقول شهد: “كنا في البداية نظن أننا نستطيع الحديث بحرية، كنا نسأل بعضنا عن المظاهرات والاعتقالات، لكننا اكتشفنا سريعًا أن المدرسة ليست مكانًا آمنًا، بل كانت مليئة بمراقبين من شباب الثورة الذين يرفعون تقارير عما يُقال”.
ومع مرور الوقت، أصبح التهديد أكثر وضوحًا. تقول شهد: “جاءتني مشرفة المدرسة وقالت لي بصوت منخفض ولكنه كان تهديدًا واضحًا: ‘أنا أعرف أين تعمل والدتك، انتبهي لنفسك’. ومن هنا شعرت أنني أصبحت مستهدفة وأنهم يعرفون كل شيء عني وعن عائلتي”.
لكن في مكان آخر من دمشق، كانت فاطمة تعيش كابوسًا أشد وطأة. تقول: “كان منزلنا يقع أمام فرع الأمن السياسي مباشرة، وكنا نستيقظ يوميًا على مشهد سيارات الأمن وهي تدخل وتخرج، وأحيانًا كنا نسمع صراخ المعتقلين الذين يُسحبون من السيارات إلى الفرع”.
وكانت القوانين غير المكتوبة في حيها صارمة: “ممنوع أن ترى، ممنوع أن تشهد، ممنوع أن تبدي أي اهتمام بما يحدث”. وعندما كان يحدث أي شيء مروع، كان يجب على السكان أن يلتزموا الصمت ويبتعدوا، وإلا كان سيكون مصيرهم الوقوع في دائرة الاستجواب أو الاعتقال.
تروي فاطمة كيف أن هذا الفرع كان بمثابة “دولة قائمة بذاتها”، حيث كان يتم فرض قيود على التنقل داخل الحي، وإذا كنت تريد المرور عبر طريق آخر، قد تجد نفسك موقوفًا أو مستجوبًا أو حتى مُعتقلًا.
شهد، من جانبها، تتذكر كيف كان أفراد الميليشيات الأجنبية الذين جلبهم النظام للقتال ضد السوريين يعاملون الناس بغطرسة، حيث كان يتم طلب هويات المواطنين بشكل مهين. وتستذكر أيضًا كيف كانت المحجبات يتعرضن للمضايقات أكثر من غيرهن.
أما فاطمة، فتروي حادثة مؤلمة حدثت عندما كانت في الـ16 من عمرها، حيث قررت أن تستمتع بموسيقى على شرفتها، ليشاهدها أحد الجنود الذي بدأ يصرخ في وجهها ويشتمها. وبعد دقائق، دق الباب ووقف الجندي أمامها، طالبًا منها هاتفها. حاولت فاطمة إقناعه بأنها لم تكن تصوّر، ولكن الجندي أخذ الهاتف وفتشه، ليكتشف لاحقًا أنه لم يكن يحتوي على أي صور متعلقة بالفرع.
بعد تلك الحادثة، أصبح كل شيء مروعًا. تقول فاطمة: “نظر إليّ الجندي نظرة انتصار، كأنما يقول لي: ‘وصلتُ إلى بيتك، أذللتكِ، ولن تنسي هذا أبدًا'”.
ومع اقتراب نهاية عام 2014، بدأت المؤشرات تتوالى بأن النظام بدأ ينهار. في 7 ديسمبر، كانت الأخبار تتسرب عن تقدم الفصائل المسلحة، حيث بدأت التحركات غير العادية في فرع “السياسية” المجاور لمنزل فاطمة. وبدءًا من تلك اللحظات، بدأت علامات النهاية تلوح في الأفق.
تقول فاطمة: “في تلك الليلة، بدأ الجنود في الفرع يتسللون واحدًا تلو الآخر، كأنهم كانوا يهربون من مصيرهم المحتوم، وسمعنا الجنود يصرخون: ‘مش بس لحقوني!’. كأنهم كانوا يركضون بين بعضهم، لم يعرفوا إلى أين يذهبون”.
وفي صباح 8 ديسمبر، بدأ كل شيء يتغير بشكل مفاجئ، حيث بدأ الجنود يفرون، تاركين خلفهم المكان مليئًا بالفوضى.
تقول فاطمة: “في تلك اللحظة، شعرنا بشيء غريب، مزيج من الخوف والفرح. كان كل شيء في حالة انهيار، لكننا كنا نعرف أن النهاية قد اقتربت”.
كان ذلك اليوم هو فجر الحرية، حيث بدأ الناس بالخروج إلى الشرفات، يهللون، يبكون، ويزغردون لأول مرة منذ سنوات.
انتهت حقبة مظلمة من الرعب، وانتهى النظام الذي حكم بالقوة، ليبدأ فصل جديد من الأمل والتغيير.