العالم

قاعدة العديد في قطر: البوابة العسكرية الأمريكية إلى الخليج

تقع قاعدة العديد الجوية في قلب الصحراء القطرية، على بُعد نحو 30 كيلومترًا جنوب غرب العاصمة الدوحة. في ظاهرها، مجرد منشأة عسكرية ضخمة، لكن في الواقع، تُعتبر القاعدة واحدة من أهم المرافق العسكرية الأمريكية خارج الولايات المتحدة، ومركزًا استراتيجيًا لتنسيق العمليات في منطقة الخليج والشرق الأوسط بأكمله. هذه القاعدة لم تكتفِ بتغيير ملامح التوازن العسكري في المنطقة، بل لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل المشهد الجيوسياسي منذ مطلع الألفية الثالثة.

النشأة والتطور

بدأت قصة قاعدة العديد في التسعينيات، بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما أدركت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحاجة إلى قواعد عسكرية مستقرة خارج الأراضي السعودية، التي كانت وقتها تعاني من موجة احتجاجات داخلية بسبب الوجود الأجنبي. قطر، بحكم موقعها الجغرافي المحدود ولكن الاستراتيجي، برزت كخيار مثالي.

في عام 1996، بدأت الولايات المتحدة بالتعاون مع الحكومة القطرية في تطوير القاعدة. وبحلول عام 2002، أصبحت قاعدة العديد جاهزة لاستقبال القوات الأمريكية بشكل موسع، تزامنًا مع استعداد واشنطن لحرب العراق. منذ ذلك الحين، تحولت القاعدة إلى مقر رئيسي للقيادة الجوية المركزية الأمريكية (CENTCOM)، وهي الجهة المسؤولة عن العمليات العسكرية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

البنية التحتية والقدرات

تمتد القاعدة على مساحة تقارب 26 كيلومترًا مربعًا، وتضم أطول مدرج طائرات عسكرية في منطقة الخليج، بطول 12 ألف قدم (نحو 3.6 كيلومتر). هذا المدرج قادر على استقبال الطائرات من طراز B-52 الثقيلة، وطائرات الشحن العملاقة مثل C-17 وC-5، فضلًا عن الطائرات المقاتلة المتقدمة كـF-15 وF-22.

القاعدة تحتوي على أكثر من 10 آلاف جندي أمريكي، بالإضافة إلى قوات من دول حليفة مثل بريطانيا وأستراليا. وتشمل منشآتها مراكز قيادة وتحكم متطورة، غرف عمليات مشتركة، منشآت سكنية ضخمة، مستودعات ذخيرة، ومستودعات وقود، ومرافق طبية وعمليات صيانة للطائرات.

ANKARA, TURKIYE – JUNE 23: An infographic titled “US military presence in the Middle East” created in Ankara, Turkiye on June 23, 2025. The US has approximately 45,000 military personnel, numerous bases, and powerful air and naval fleets that it can deploy across the Middle East. ( Omar Zaghloul – Anadolu Agency )

الدور الإقليمي والدولي

تلعب قاعدة العديد دورًا مركزيًا في دعم العمليات الأمريكية في العراق، سوريا، أفغانستان، واليمن. منها تنطلق الغارات الجوية، ويتم تنسيق الضربات عبر طائرات بدون طيار، كما أنها تُستخدم كمركز مراقبة للحركة الجوية في مسرح العمليات الممتد من البحر الأحمر حتى آسيا الوسطى.

وقد لعبت القاعدة دورًا جوهريًا خلال الحرب على تنظيم “داعش”، وكانت بمثابة منصة مركزية لتوجيه الضربات الجوية وتنسيق العمليات الاستخباراتية. كما دعمت القاعدة بشكل مباشر عمليات الإجلاء من أفغانستان في أغسطس 2021، حيث تم نقل آلاف المدنيين إلى القاعدة قبل ترحيلهم إلى دول أخرى.

الشراكة مع قطر

العلاقة بين واشنطن والدوحة لم تكن محصورة في منح تسهيلات عسكرية. فقد تكفلت الحكومة القطرية ببناء القاعدة وتمويلها بتكلفة تجاوزت المليار دولار، وهو ما اعتبره المراقبون حينها رسالة سياسية من قطر لتأكيد تحالفها مع الولايات المتحدة رغم صغر حجمها الجغرافي.

ومع مرور الوقت، تطورت العلاقة إلى شراكة استراتيجية واسعة، تشمل التعاون العسكري، الأمن السيبراني، التدريب المشترك، وحتى التنسيق الاستخباراتي. وفي السنوات الأخيرة، بدأت قطر في توسعة إضافية للقاعدة، بتكلفة مليارية جديدة، شملت مرافق جديدة وغرف عمليات متطورة.

الانتقادات والجدل

رغم الدور العسكري الحاسم للقاعدة، إلا أنها لم تخلُ من الجدل. فقد اعتبرها البعض أحد مظاهر “الاعتماد المفرط” لدول الخليج على القوى الغربية لحمايتها، بينما رأى آخرون أنها تُستخدم كمنصة لتوسيع النفوذ الأمريكي تحت غطاء محاربة الإرهاب.

كما أُثيرت انتقادات حول استخدام القاعدة في عمليات أودت بحياة مدنيين، خصوصًا في اليمن وسوريا. ورأى البعض أن وجودها يُبقي قطر في مرمى الخصوم الإقليميين، ويضعها في موقع التبعية للسياسات الأميركية.

العلاقة مع الأزمة الخليجية

أثناء الأزمة الخليجية في عام 2017، عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصارًا دبلوماسيًا واقتصاديًا على قطر، برزت قاعدة العديد كورقة ضغط غير مباشرة. فبينما راهن خصوم قطر على عزلها، سارعت الولايات المتحدة إلى التأكيد على أن القاعدة ستظل تعمل دون تغيير، بل وقام البنتاغون بزيارات رفيعة المستوى لطمأنة القيادة القطرية.

وكان من اللافت أن القاعدة لم تتأثر بالأزمة، بل استمر استخدامها بشكل طبيعي، ما عكس اعتمادًا استراتيجيًا أميركيًا عليها لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة.

القاعدة في ميزان القوى

في ضوء التوترات المستمرة في الخليج، خاصة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، تبقى قاعدة العديد إحدى نقاط التوازن الدقيقة. فهي رسالة ردع موجهة لطهران، ومركز متقدم لمراقبة تحركاتها، ومصدر دعم سريع لأي حليف في المنطقة.

كما أن وجودها ساهم في “ردع خفي” لبعض التوجهات العدوانية، سواء من أطراف الدولة أو الجماعات المسلحة المدعومة إقليميًا، مما منحها مكانة خاصة في معادلة الأمن الإقليمي.

ماذا بعد؟

مع تسارع التحولات في المنطقة، ومحاولات الصين وروسيا توسيع نفوذهما في الشرق الأوسط، قد تعيد الولايات المتحدة النظر في طريقة انتشار قواتها. إلا أن قاعدة العديد تظل – على المدى القريب والمتوسط – عنصرًا أساسيًا في أي خطة أميركية في المنطقة.

في الوقت ذاته، تحاول قطر الاستفادة من هذه القاعدة كورقة توازن في علاقاتها الخارجية، خاصة مع القوى الكبرى، بينما تبني في الوقت نفسه منظومة دفاعية وطنية أكثر استقلالًا.

قاعدة العديد في قطر ليست مجرد منشأة عسكرية. إنها اختصار لتشابك المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية في منطقة شديدة الحساسية. فمن فوق رمالها تُدار الحروب، وتُرسم الخرائط الجديدة. وبينما تتغير ملامح السياسة الإقليمية، تبقى القاعدة – حتى إشعار آخر – أحد أهم مراكز النفوذ العسكري الأمريكي في العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى