من هنا وهناك

آثار أنقرة: تاريخٌ عريق يروي قصة الحضارات عبر العصور

أنقرة، عاصمة تركيا، هي واحدة من أقدم المدن التي شهدت تحولات حضارية وثقافية كبيرة عبر العصور. تاريخ المدينة يمتد لأكثر من 3,000 عام، وهو مليء بالأحداث الهامة التي شكلت الهوية التركية الحديثة. من الحضارة الفريغية إلى العصور الرومانية، البيزنطية والعثمانية، وصولاً إلى الجمهورية التركية الحديثة، أنقرة تحمل في جنباتها آثارًا ومواقع تاريخية فريدة تسرد قصصًا عن تطور البشرية في هذه المنطقة الجغرافية. في هذا المقال، سنستعرض أبرز الآثار والمواقع التاريخية التي يمكن للزوار أن يشهدوها في أنقرة، مع تسليط الضوء على التاريخ العميق لهذه المدينة.

1. التاريخ المبكر لأنقرة: الفريغيون والرومان

قبل أن تصبح أنقرة عاصمة للجمهورية التركية الحديثة، كانت المدينة على مدار العصور مكانًا مهمًا للمجتمعات التي سكنت فيها. في العصور القديمة، كانت تعرف باسم “أنقورة”، وهي المدينة التي تأسست في الألفية الثانية قبل الميلاد، وكان الفريغيون هم أول من تركوا آثارًا هامة فيها.

أ. الآثار الفريغية:

تعد آثار الفريغيين في أنقرة من أقدم المعالم التي شهدت مراحل من الزهور الثقافية والسياسية. في منطقة “غوردين”، بالقرب من أنقرة، يمكن العثور على العديد من المقابر الفريغية التي تُظهر فنونهم المعمارية المميزة. يُعرف هذا الموقع بوجود مقابر محفورة في الصخور، وهي تعكس العناية الكبيرة التي كان الفريغيون يولونها للآخرة. تم العثور أيضًا على العديد من التماثيل والآثار التي تحمل طابعًا دينيًا وثقافيًا فريدًا.

ب. الوجود الروماني:

في القرن الثاني قبل الميلاد، أصبحت أنقرة جزءًا من الإمبراطورية الرومانية بعد أن خضعت للسيطرة الرومانية. في هذا العصر، شهدت المدينة توسعًا كبيرًا في العمران، حيث تم بناء العديد من المنشآت الرومانية التي لا تزال قائمة حتى اليوم. من أبرز آثار هذا العصر هو معبد أغريبا الذي بني في القرن الأول الميلادي، وهو أحد المعابد الرومانية الهامة في أنقرة.

2. قلعة أنقرة: معلم رئيسي عبر العصور

تعتبر قلعة أنقرة واحدة من أبرز المعالم التاريخية في المدينة، والتي تُعد شاهدًا حيًا على تحول المدينة عبر العصور. تقع القلعة في قلب المدينة القديمة، وقد تم بناؤها في فترة غير محددة بدقة، إلا أن بعض المصادر تشير إلى أن الفريغيين قد بدأوا في بناء الأساسات الأولى للقلعة في القرن السابع قبل الميلاد.

تاريخ القلعة يربطها بمراحل مختلفة من الحضارة التركية، إذ أعيد بناء أسوارها من قبل البيزنطيين في القرون الوسطى، كما تم تطويرها لاحقًا من قبل السلاجقة والعثمانيين. القلعة اليوم تمثل مزيجًا من المعمار الفريغي والبيزنطي والعثماني، وتوفر للزوار فرصة للتمتع بمشاهد بانورامية للمدينة والمناطق المحيطة بها.

3. آثار العصر البيزنطي:

عندما أصبحت أنقرة جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية في القرن الرابع الميلادي، ترك البيزنطيون العديد من الآثار التي يمكن رؤيتها حتى اليوم. من أبرز هذه الآثار كنيسة القديس جاورجيوس التي تم تحويلها لاحقًا إلى مسجد، وهي مثال على التأثير المسيحي في المدينة. كما تم بناء العديد من الحصون والأسوار الدفاعية التي كانت تحمي المدينة من الغزوات الخارجية.

4. العهد العثماني: آثار فترة الازدهار

أنقرة كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية منذ القرن الخامس عشر، وقد ترك العثمانيون بصمتهم بوضوح في المدينة. على الرغم من أن إسطنبول كانت مركز الإمبراطورية العثمانية، فإن أنقرة قد حافظت على أهمية خاصة، خاصة خلال العهد العثماني المتأخر.

أ. مسجد كوجا تبي:

يعد مسجد كوجا تبي من أهم المعالم العثمانية في أنقرة. تم بناء المسجد في عام 1365 بأمر من السلطان أورخان غازي، ويتميز بتصميمه المعماري التقليدي الذي يعكس جماليات الفن العثماني. يحتوي المسجد على ساحة واسعة وأعمدة من الحجر الرملي، كما تتميز مئذنته بالأعمدة المتعددة.

ب. الأسواق العثمانية:

في الأحياء القديمة لأنقرة، يمكن للزوار الاستمتاع بجولة في سوق الحمام و سوق التوابل العثماني. هذه الأسواق التي تعود للعهد العثماني، لا تزال تحتفظ بجوها التقليدي حيث يتم بيع المنتجات المحلية، من الأقمشة والعطور إلى التوابل.

5. الآثار الحديثة: تركيا الجمهورية

في بداية القرن العشرين، وبالتحديد بعد تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، شهدت أنقرة تغييرات كبيرة في معالمها المعمارية والهيكلية. بعد أن اختار مصطفى كمال أتاتورك أنقرة لتكون عاصمة الجمهورية التركية، تم تجديد المدينة وبناء العديد من المعالم الحديثة. هذه الفترة شهدت تحولًا كبيرًا في المدينة التي أصبحت مركزًا حضريًا حديثًا يعكس قيم الجمهورية.

أ. متحف حضارات الأناضول:

يعد متحف حضارات الأناضول من أبرز المعالم التي تحتفظ بالتراث الثقافي لتركيا، وهو يعرض آثارًا من مختلف العصور التي مرت بها الأناضول. المتحف يحتوي على مجموعة كبيرة من القطع الأثرية من العصر الحجري الحديث، وكذلك من الحضارات الفريغية، الهلنستية، الرومانية والعثمانية. أحد أبرز المعروضات في المتحف هو تمثال “الفرس الفريغية” الذي يمثل فنون العصر الفريغي.

ب. الضريح الأنوراتي:

إحدى المعالم الحديثة التي تحظى بشعبية في أنقرة هو الضريح الأنوراتي، الذي يضم قبر مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية. الضريح هو تحفة معمارية تعكس قيم الجمهورية التركية الحديثة، ويعد وجهة مهمة للزوار والسياح من جميع أنحاء العالم.

6. الفنون المعمارية في أنقرة:

أنقرة تقدم مزيجًا مميزًا من الفنون المعمارية التي تمثل تاريخها الطويل والممتد عبر مختلف الحضارات. من المعمار الفريغي البسيط إلى العمارة العثمانية الفاخرة، وصولاً إلى التصاميم الحديثة التي تعكس تطور المدينة بعد تأسيس الجمهورية، فإن أنقرة تقدم نموذجًا حيًا للتطور الحضاري.

أ. العمارة الفريغية:

لقد برع الفريغيون في استخدام الصخور لإنشاء مقابر ومعابد منحوتة في الجبال. كانت هذه الأبنية تتميز بالبساطة والصرامة، مما يعكس روح الثقافة الفريغية التي كانت تركز على الزهد والإيمان.

ب. العمارة العثمانية:

العثمانيون أضافوا لمسة فنية رائعة للمدينة عبر بناء العديد من المساجد والقصور التي تبين براعتهم المعمارية. المساجد العثمانية في أنقرة تمتاز بقبابها الضخمة والمنارات العالية، كما أن الشوارع القديمة تحتوي على العديد من المنشآت العثمانية التي تشهد على عظمة العصر.

ج. العمارة الحديثة:

مع التحول الكبير الذي شهدته المدينة في القرن العشرين، تم تبني أسلوب معماري حديث يعكس النمو السريع للمدينة. البنايات الحديثة في أنقرة تعكس الأساليب المعمارية الأوروبية والعالمية، مما يجعلها مدينة تشهد توازنًا بين الحداثة والتراث.

7. الخاتمة

أنقرة هي مدينة غنية بالآثار التاريخية التي تعكس تنوع الحضارات التي مرت عليها. من الآثار الفريغية القديمة إلى المباني العثمانية الرائعة، وصولًا إلى المواقع الحديثة التي تحكي قصة نشوء الجمهورية التركية، أنقرة تظل شاهدة على التغيرات الكبيرة التي مرت بها تركيا عبر العصور. هذه المدينة ليست فقط عاصمة سياسية، بل هي أيضًا مركز ثقافي وتاريخي هام، يعكس الهوية التركية بكل تنوعاتها.

المصادر:

  1. Öztürk, M. (2017). Ankara: A City of History. Istanbul: Turkish History Foundation.
  2. Karaca, H. (2018). The Archaeology of Ankara: Ancient Ruins and Modern Discoveries. Ankara University Press.
  3. Lambrecht, H. (2019). Roman and Byzantine Remains in Ankara. Cambridge University Press.
  4. Köse, M. (2016). Ottoman Architecture in Ankara. University of Ankara Press.
  5. Çelik, Z. (2015). Modernizing Ankara: Architecture and Politics in the Turkish Republic. Princeton University Press.
  6. Parker, R. (2018). The History of Turkey: From the Ottoman Empire to the Republic. Oxford University Press.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى