الفيتناميون والقرفصاء: كيف أصبحت هذه العادة رمزًا للرشاقة والجلَد؟

هانوي- يعتبر الفيتناميون من أقصر الشعوب في العالم، ولكنهم يحتلون في المقابل مرتبة عالية جداً على مستوى رشاقة الجسم ونسب انخفاض الأمراض وشبه عدم وجود السمنة. كما أنهم يُعرفون بشراستهم في القتال، وهو ما يبرهن عليه تاريخهم المليء بالملاحم والمعاناة.
وفقًا للعلماء، فإن هذه البنية الجسمانية تعود إلى سمة جينية تميز شعوب دول جنوب شرق آسيا، بالإضافة إلى نظام غذائي تقليدي ساهم في الحفاظ على صحة الجسم الفيتنامي دون تأثيرات سلبية من عولمة الطعام أو تأثيرات ثقافة الوجبات السريعة الغربية.

لا يمكن للعين أن تخطئ في هانوي حيث توجد طقوس مميزة تُبرز أن المرونة الجسدية الفائقة لهذا العرق الأصفر لم تكن مجرد مشهد عابر في أفلام النينجا والكاراتيه، بل هي حقيقة راسخة. ومن بين تلك التجليات، تُعد جلسة القرفصاء واحدة مما شهدته الجزيرة نت على أرصفة هذه المدينة النشيطة.
تعتبر جلسة القرفصاء شائعة في عموم آسيا، ولكن في فيتنام، تظهر كوسيلة تتجاوز مجرد العثور على وضعية مريحة للجلوس، إذ أصبحت ممارسة ممتعة يعتز بها السكان. من خلال هذه الجلسة، يسعون إلى إيصال رسالة الأجداد الفلاحين البسطاء، وهي أن الأصل في خلق الله هو الطبيعة والاقتراب قدر المستطاع من سطح الأرض.

على الرغم من أن “الجلسة العجيبة” أكثر شيوعًا بين الكهول وكبار السن، خاصة النساء، إلا أنها ليست سهلة، حيث تحتاج إلى مرونة كبيرة في الركبتين بشكل أساسي، وخبرة في التحكم بالمفاصل، ومهارة في شد عضلات الساقين.
تتمثل العملية بشكل كامل في النزول عمودياً بجزء الجسم العلوي بزاوية 90 درجة للوصول إلى وضعية الجلوس على الكعبين، لكن تبقى السر في الحفاظ على التوازن لفترة معينة وتجنب السقوط المفاجئ إلى الخلف.

ومن الغريب أن نسل محاربي “الفيت مينه” (ثوار الشمال خلال فترة الحرب ضد الاستعمار الفرنسي) قادرون على البقاء لساعات في هذه الوضعية التي تعجز أعراقًا أخرى. والمثير للدهشة أنه بالإضافة إلى فوائدها العملية، فإنها أيضًا مفيدة للدورة الدموية، خاصة للجهاز الهضمي، وفقًا لخبراء الصحة.
أظهرت دراسة من الغرب أن جميع الآسيويين يستطيعون الجلوس لفترات طويلة في وضعية القرفصاء، بينما لا يتمكن سوى عدد قليل من سكان أميركا الشمالية من القيام بهذه “المهمة المستحيلة”.

وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، يبلغ معدل طول الفيتناميين 1.62 متر، وهو أقل بعدة مليمترات عن الفلبين وبوليفيا، بينما تتصدر إندونيسيا القائمة بمتوسط طول 1.58 متر. بالإضافة إلى ذلك، يبلغ متوسط وزن الفيتنامي حوالي 50 كيلوغرامًا، وهو رقم منخفض مقارنةً بالمعدل العالمي الذي يصل إلى 62 كيلوغرامًا.
سر الرشاقة
في حديث مع مراسل الجزيرة نت في أحد المتاجر المنتشرة حول بحيرة “هو هوان كيام” في وسط المدينة الحي العتيق في العاصمة الفيتنامية، حيث تُقام فعاليات كبيرة احتفالاً بذكرى توحيد شطري فيتنام عام 1975، تشرح الشابة هوونغ هوتيتي سبب رشاقتها بنظام غذائي قديم يتوارثه الأجيال.
ترى هوونغ أن السر يكمن ببساطة في أن فيتنام بلد زراعي يتم فيه الحصول على الخضروات والفواكه بأسعار منخفضة ومن قبل جميع فئات المجتمع، مما ساهم على مر العصور في جعل النظام الغذائي العام نباتياً بامتياز.

تضيف هونغ أن أسلوب الطهي لا يعتمد بتاتا على الأفران أو الوسائل الحديثة الأخرى، بل يستند إلى الطهي التقليدي في القدور. كما يوجد عنصر مهم للغاية يتمثل في النفور الواضح في المجتمع من الوجبات السريعة (الفاست فود) والأطعمة المجمدة والمشروبات الغازية.
رصدت الجزيرة نت عنصرًا آخر له أهمية كبيرة، وهو أن الفيتناميين بشكل عام يكتفون بكميات بسيطة في كل وجبة، وغالبًا ما تكون في شكل حساء، إذ نراهم لا يكثرون من الطعام ولا يسرفون فيه، وكأنهم يتبعون المثل القائل: “نحن شعب لا نأكل حتى نشعر بالجوع، وعندما نأكل لا نشبع”.
بالإضافة إلى الرشاقة والمرونة، تبرز النساء الفيتناميات في معايير الأنوثة والجمال، سواء على مستوى دول جنوب شرق آسيا أو في أنحاء العالم. فهن يثيرن الإعجاب ويدخلن البهجة إلى القلوب بفضل ملامحهن الناعمة وبشرتهن الملساء وابتساماتهن الجذابة.

قمة جبل الجليد
ومن المثير للدهشة أن مشهد الرشاقة والجمال والمرونة ما هو إلا جزء صغير من الصورة في فيتنام، حيث عاشت أجيال متتالية من شعبها تحت وطأة الحروب المدمرة، والتي تعتبر واحدة من أكثر المآسي فظاعة في القرن العشرين.
خلال تلك الحروب، تم إسقاط ملايين الأطنان -وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البشرية- من قنابل “النابالم” ومبيدات “العامل البرتقالي” الكيميائية التي اتلفت البيئة بشكل مروع، وما زالت آثارها تؤثر على صحة جيل كامل من الفيتناميين حتى الآن.

أدت الإشعاعات التي تسربت في قاع الأرض والأنهار ومصادر المياه، والتي سممت المحاصيل الزراعية لعقود طويلة، إلى حدوث تشوهات خلقية واسعة النطاق للأطفال المولودين في تلك الفترة. كما أثرت هذه الإشعاعات على معدلات نمو الأطفال الذين عانوا من الهزال وضعف البنية، بالإضافة إلى الأمراض المزمنة التي رافقتهم طوال حياتهم.
تعرضت فيتنام لحصار غذائي وحملات قصف غير عادية من قبل الاستعمار الفرنسي في البداية خلال حرب الهند الصينية (1946-1954) التي انتهت بخروجهم مهزومين بعد معركة “ديان بيان فو” وانتصار تاريخي لقوات الجنرال الأسطوري. نغويان جياب .

بين عامي 1955 و1975، تولى الأمريكيون مسؤولية التدمير أثناء حرب تحرير الجزء الجنوبي. حرب فيتنام ضد قوات القائد الأسطوري والزعيم الروحي لفيتنام هو تشي منه، الذي دخل سايغون منتصرًا وجمع شمل فيتنام، وتستمر الاحتفالات بالذكرى الخمسين لهذه المناسبة في جميع أنحاء البلاد حتى يوم 30 من أبريل/نيسان الجاري.